تربية الاختيار: (بناء التكوينات الشخصية والمهنية)
مقدمة
يعتبر التوجيه المهني إحدى الأنواع الرئيسية للإرشاد، وهو يهدف إلى إسداء الخدمة للفرد ليقوم بالاختيار المهني والتدريب العملي المنسجم مع ميوله واستعداداته. كما يعد التوجيه المهني من أهم متطلبات إعداد الفرد للحياة، حيث يؤهله للقيام بالعديد من الأدوار التي تجعله عضوا فاعلا في مجتمعه.
وتعتبر عملية اختيار المهنة من أهم القرارات التي يتخذها الفرد في حياته، مما يستدعي توفير الإعداد والتهيئة لاتخاذ ذلك القرار من خلال توجيه منظم يؤدي إلى تعميق الاتجاهات الإيجابية لدى الطلبة، ويؤثر في صقل ميولهم وأنماط سلوكهم. هذا بالإضافة إلى الصعوبات التي يواجهها الشباب في تكوين صورة معينة لمستقبلهم نتيجة التطور العلمي و التكنولوجي، وما يصاحبه من تغيرات سريعة؛ مما يحتم ضرورة مساعدتهم على مواجهة هذه التغيرات بما يحقق لهم الاستقرار النفسي والاجتماعي، وإكسابهم مهارات التخطيط السليم واتخاذ القرار المهني الصائب. من هنا يبرز دور التوجيه المهني في تقديم كل المعلومات المهنية للطالب، والتي تسمح له بتكوين نظرة شاملة وواقعية حول الإمكانات المتوافرة، بما فيها الاختيارات الدراسية والفرص الوظيفية الموجودة في سوق العمل، حتى يستطيع أن يحدد اختياراته الدراسية والمهنية وعلى أساسها يسعى إلى تحصيل وتعميق وتوزيع معارفه في التخصصات الأساسية المفتوحة على عالم العمل، فيكون لديه مشروع حياة يسعى إلى تحقيقه.
نشأة وأهمية تربية الاختيارات
تربية الاختيار طريقة تدريس كندية الأصل، تبنتها بعد ذلك بعض الأنظمة التعليمية مثل هولندا وفرنسا والجزائر، وهي تعتمد على مجموعة من الأنشطة التي تساعد على التطور التدريجي لخاصية النضج المعرفي والوجداني من خلال نمو بعض الكفاءات والاتجاهات التي تسمح بتعلم سيرورة الاختيار من جهة، وبإعداد وبناء مشروع من جهة أخرى. وتكمن أهمية تربية الاختيار من خلال بناء مشروع شخصي باعتبارها وسيلة تدفع الطالب إلى التساؤل عن احتياجاته والعمل على تتفيذ مشاريع تتوافق مع هذه الاحتياجات، وحتى يتم تحقيق ذلك ينبغي أن يشتمل المشروع على أهداف، ومناهج عمل ووسائل خاصة لتحقيق هذه الأهداف؛ بمعنى أنها عملية انخراط في المستقبل وانفتاح على آفاقه من خلال معرفة الذات وسوق العمل. والمقصود بمشروع الحياة الطموحات والأهداف التي يفكر الطالب في تحقيقها من خلال التخصص الجامعي أو التخصص المهني الذي اختاره .
مفهوم تربية الاختيارات (Educational Choice):
تربية الاختيارات هي مقاربة تربوية في الإرشاد والتوجيه المدرسي، والتي تقترح خلال مرحلة التعليم الأساسي وما بعد الأساسي، بواسطة برنامج يتضمن جلسات تهدف إلى مساعدة الطالب على التفكير و إعطاء معنى أكثر قيمة لحياته، يتعلم فيها كيفية توظيف المعرفة والانفتاح من أجل فهم أوسع لمحيطه الاجتماعي والدراسي، والتعرف على الواقع، وبالتالي التعرف على نفسه أكثر، والتعرف على الأنماط المتعلقة بالوظائف والحرف والمهن ليستقر في الأخير على اختيار مهني محدد، وذلك عن طريق بناء مشروع شخصي، والذي هو عبارة عن الفعل الذي يريد تحقيقه في المستقبل، وهو الذي يجعل لكل لحظة معنى محددا في الحاضر أو الماضي، مما يجعل الفرد يقوم باسترجاع تصوراته الماضية، ويعيد قراءتها ويقيمها ويبحث عن الوسائل المناسبة التي تساعده على تحقيق هدفه (أحميده، 2004). وبالتالي فإن البعد المستقبلي هو الذي يعطي المعنى الحقيقي لماضي وحاضر الفرد، والذي يصبح الموجه الأساسي لسلوكياته.
وتعرّف تربية الاختيار بأنها مجموعة أنشطة أو اجراءات عملية تربوية فردية أو جماعية تسمح للطلبة ببناء مشروع دراسي أو مهني، من خلال تطوير قدراتهم ومعارفهم واتجاهاتهم ودافعيتهم، وتنمية المفاهيم الضرورية التي تسمح لهم بالقيام باختيارات دراسية ومهنية مناسبة وناضجة مع التخطيط العلمي والموضوعي للوصول إليها وتحقيقها (علاقي، 2013).
مجالاتها:
ينجم عن تربية الخيارات بواسطة المشروع الشخصي للطالب علاقات قوية بين ثلاثة أقطاب وهي:
1-القطب الدافعي (Motivational pole): هو قطب التمركز حول الذات، ويقصد به قدرة الطالب على معرفة آرائه ومعتقداته، وقدرته على التصرف في المواقف التي يتعرض لها.
2-القطب المهني (Career/ professionnel Pole): قطب التمركز حول المهن والمحيط الاقتصادي، والتعرف على فرص التعليم والتدريب والتوظيف المتاحة في سوق العمل.
3-قطب التقويم الذاتي (Self evaluation pole): :يتعلق هذا القطب بالعالم المدرسي، ومحاولات الطلبة المستمرة في تحديد ميولهم وطموحهم المستقبلي. وتمثل المدرسة تأثيرا أساسيا في نمو ميول الطلبة عن طريق توظيف عدة عناصر منها، مدى توافر النشاطات العلمية لإشباع رغبات واهتمامات الطالب، والمعلم، ومستوى التحصيل الدراسي.
وسنركز الحديث في هذه المقال البسيط على القطب المهني ودور أخصائي التوجيه المهني بالمساهمة في بناء التكوين المهني للطالب.
لماذا نحن بحاجة إلى تربية الاختيارات:
تتطلب عملية التوجيه المهني السليم وضع التلميذ المناسب في التخصص المناسب على أساس موضوعي وعلمي، لأن عملية التوجيه المهني ليست كما يظن البعض بأنها عملية توزيع التلاميذ على شعب التعليم بمختلف مراحله، بل هي دارسة دقيقة تراعى فيها رغبات التلميذ وقدارته، ودافع إنجازه، فتحقيق رغبات وميول التلاميذ من شأنه حل الكثير من المشكلات التي تعاني منها مؤسساتنا التعليمية سواء المعرفية أو الاجتماعية وحتى الاقتصادية.
أنشطة تربية الاختيارات
نلاحظ أن فكرة تربية الخيارات عملية يشترك فيها المهتمون بالتربية والأخصائيون التربويون والمهنيون بهدف جعل التلاميذ قادرين على القيام باختيارات صائبة من خلال بناء تكوينات ذاتية مهنية تتناسب مع قدراتهم وطموحاتهم المهنية، وأن الخاصية الإجرائية للمشروع الشخصي المدرسي والمهني تترجم على أنها مجموعة من النشاطات تسمح للطالب باتخاذ القرارات التي تحدد تطوره المدرسي والمهني، وتتمثل هذه النشاطات في قيام أخصائي التوجيه المدرسي والمهني بتصميم مجموعة من الأنشطة التي تدفع الطالب إلى تطوير قدرته على التوجيه وتحديد مستقبله بكل مسؤولية واستقلالية. وهذه النشاطات تتمثل في:
– الإعلام (Information) : من خلال إعطاء الطالب معلومات فعلية وموضوعية حول أنفسهم، وحول العالم المدرسي والمهني، ومن خلال الزيارات الميدانية الهادفة لتَّعرف على سوق العمل، والاستفادة من خدمات غرفة التوجيه المهني، ومعرفة مصادر المعلومات والقدرة على ترتيبها حسب الأهمية والتعامل معها، والبحث عن مصادر خارج فضاء المدرسة.
– التقييم (Evaluation): ويتم فيها تدريب الطالب على إعطاء حكم تشخيصي حول التوافق بين قدراته وإمكاناته حول خياراته، وذلك من خلال بناء الملف المهني والذي يساعده على عرض قدراته وإمكاناته من خلال جمع البيانات والمعلومات الشخصية التي تعكس مهاراته الفكرية.
– المشورة (Advice): ويتم فيها تقديم مقترحات للطالب اعتمادا على التجارب والمعلومات التي تم جمعها من المجتمع أو الممارسة الميدانية من خلال استضافة أصحاب المهن والحرف، أو عرض أفلام تعليمية تتعلق بمهارات العمل أو المهام والمسميات الوظيفية للعمل، وتقديم الاستشارات المهنية المتعلقة بالمواد الدراسية والفرص الوظيفية المتاحة.
– الإرشاد (guidance): ويهدف إلى مساعدة الطالب على الكشف والتعبير عن أفكاره وإحساسه المتعلق بوضعه الحالي والإمكانات المتاحة له، وذلك بتفعيل حصص التوعية، وشرح الموضوعات المتعلقة بكتاب مسارك المهني. هذا بالإضافة إلى تصميم جلسات الإرشاد الفردي والجمعي.
– تربية المشاريع (Education Projects): ويتم فيها وضع برامج تربوية مهنية تسمح للمشاركين بتطوير قدراتهم والأدوات المعرفية اللازمة للاختيارات الدراسية والمهنية وتحديد الخطة المناسبة لتحقيقها، ومن تلك البرامج التي يشرف عليها المركز الوطني للتوجيه المهني:
1- برنامج رواد تكاتف: والذي يهدف إلى تأهيل الطلبة المتميزين لأدوار ريادية تسهم إسهاما كبيرا في بناء المستقبل.
2- برنامج غايته: والذي يهدف إلى تنمية الوعي المهني من خلال تنمية مهارات الطلبة للتخطيط لمستقبل مهني ناجح، وتعزيز مفهوم العمل الريادي والابتكار بهدف تأهيلهم لتأسيس مشاريع وشركات ذاتية.
3-برنامج انطلاقة: ويهدف إلى تشجيع الطلاب على التفكير الإبداعي واكسابهم مهارات ريادية من خلال تأسيس مشاريعهم التجارية، واكتسابهم العديد من المفاهيم العلمية والعملية عن العمل الحر و ريادة الأعمال لاكتساب المهارات اللازمة للانخراط في سوق العمل.
– التعيين (Placement): ليس من مهام أخصائي التوجيه المهني توظيف الطالب في مهنة معينة، ولكن بإمكانه إتاحة الفرصة للطالب للتدريب العملي من خلال عقد دورات لتنمية بعض المهارات اللازمة لسوق العمل بالتعاون مع مراكز التدريب المهني.
مراحل تربية الاختيار:
ومن أجل اختيار واضح يتطلب من الطالب أن ينجح في القيام بأربعة مهام تنموية مرتبطة بمراحل نموه الفكري و المعرفي، وبمختلف العمليات والكفاءات المتمكن منها . وتتم هذه المهام عبر أربع مراحل هي:
1- مرحلة الاستكشاف ((Exploration Stage
– الاستكشاف قدرة توجد لدى كل الناس في الغالب، ولكن بصفة غير مفعّلة، تتسم بالانفتاح والبحث عن المعلومات، وتهدف هذه المرحلة إلى مساعدة الطلبة على اكتشاف وبناء المشاريع الشخصية والمهنية بالاعتماد على جانبين أساسيين، والشكل (2) يوضح ذلك.
ويمكن تطوير الاستكشاف لدى الطلبة بممارسة عدد من التمارين والتدريبات مثل الملاحظة والخيال والحوار والمناقشة وحل المشكلات. ويمكن ممارسة الاستكشاف في الأوساط المهنية والنوادي العلمية والتجمعات الرياضية.
كأن يطلب أخصائي التوجيه المهني من الطلبة وصف شركة معينة توجد في منطقتهم، ولم تسبق لهم زيارتها، وتقديم تصوراتهم عنها. فيستمع لما كتبوه ثم ينظم لهم زيارة لتلك الشركة، ويطلب منهم إعادة وصفها من جديد، والمقارنة بين الوصف السابق والوصف الحاضر.
2- مرحلة الفرز ((Storing Stage
تؤدي مرحلة الاستكشاف إلى وضع الطالب في حالة غموض، حيث تختلط عليه الأمور مما يدفعه إلى الشعور بهاجس توضيح الرؤيا والشروع في تنظيم معلوماته حول المهن وبالتالي تقليص مجال اهتماماته. ويمكن تدريب الطلبة بالقيام بعدد من التمارين والتدريبات مثل: التنظيم والترجمة وتصنيف المعلومات في فئات، كأن يقوم أخصائي التوجيه المهني ببناء صورة إيجابية حول نفسه تتمثل في أن يبحث الطالب في تاريخه ليجد كل نقاط القوة لديه، فالسرد السِيري يعد بمثابة إعادة اكتشاف الذات. وينتج عن ذلك اكتشاف عدد من الميول والاتجاهات والقيم.
3- مرحلة الترتيب ((Customization Stage
في هذه المرحلة يقوم الطالب بعقد مقارنة بين تطلعاته وقدراته، وبين ميوله ورغباته الحقيقية والفرص التي يتيحها الوسط فيصبح ميوله محددا ويقوم بتقويم لفرص تحقيقها. ويمكن تطوير هذه المرحلة من خلال القيام بمجموعة من التمارين والتدريبات مثل المقارنة والتحليل والتقييم، وينتج عن ذلك عدد من الميول والاتجاهات التي تتوافق مع القيم والرغبات الداخلية للطالب.
مثال/ يعد الملف المهني أحد الأساليب الحديثة التي تعزز جانب التقييم الذاتي لدى الطالب، حيث يتعرف من خلاله على مواطن القوة لديه، ويبرز المشاريع والأنشطة المتميزة والأعمال التطوعية التي شارك فيها الطالب، ويستطيع من خلاله أن يحدد بدقه قدراته ومهاراته.
4- مرحلة التنفيذ ((Implementation Stage
ينتقل الطالب من النوايا إلى التفكير في الواقع، ويمكن تطوير هذه المرحلة بممارسة التمارين التالية: اتخاذ القرار والمبادرة والتخطيط، ووضع خطة تطبيق والاستفادة من الفرص المتاحة، ووضع بديل لمواجهة العراقيل والصعوبات. وينجم عن ذلك تدريب الطالب على بناء مشروعه الخاص، وحياته في جميع المواقف الحياتية.
مثال/ تتيح تقديم خدمة التوجيه المهني في المدارس فرصة للطالب لاتخاذ القرار أثناء اختياره للمواد الدراسية، والذي يعتبر قضية حاسمة ومصيرية تحدد مستقبل الطالب، وترسم له معالم النجاح أو الفشل.
وعموما فإن تربية الخيارات تقوم على منهجية جديدة قائمة أساسا على المشاركة والتواصل والتخطيط، والانفتاح بين المدرسة والأسرة والمجتمع. ولا تتم تربية الخيارات إلا وفق مراحل النمو النفسي الاجتماعي للطالب، من خلال مساهمة التوجيه المهني في صقل شخصية الطالب وتربيته تربية مهنية بهدف تحسين كفاياته ومهاراته باتجاه المسؤوليات والمهام المناطة بعمله في المستقبل، بحيث تمكنه من أداء وظيفته والتكيف معها، ومواجهة التحديات بنجاح وفاعلية. كما أنه ليست هناك منهجية جاهزة أو طريقة موحدة لتحقيق الأهداف المنشودة من تربية الاختيارات، ولكن كلما كانت الطرائق قائمة على التنوع وتركز على الطالب مع مراعاة حريته واستقلاليته، وتوفر إمكانات اكتساب مهارات متعلقة بكل تخصص أو مهنة، فإن ذلك
يلزم تحديد الكفايات المعرفية والمهارية بشكل دقيق من أجل التمكن من تقويمها بعد كل مرحلة لقياس نسبة الإنجاز والعوامل المسؤولة عن النجاح والفشل.
كاتب المقال: سعود بن مبارك البادري
المراجع:
أحميده، سهام (2004). علاقة الاختيارات المدرسية والمهنية بمشروع الحياة (رسالة ماجستير غير منشورة). جامعة الجزائر، الجزائر.
البراشدي، حفيظة (2010). التوجيه المهني لبناء المستقبل. ملحق دورية التطوير التربوي، أكتوبر (58).
حنفي، محمد؛ القصبي، راشد؛ السعيد، عصام (2010). دور كليات المجتمع الأمريكية في تلبية متطلبات سوق العمل وكيفية الاستفادة منها في مصر. مجلة كلية التربية ببورسعيد – مصر، 4(7)، 247-208.
خميس، محمد؛ عشيبة، فتحي (1997). دور المدرسة الثانوية العامة في تنمية الوعي الاقتصادي للطلاب. التربية المعاصرة-مصر، 14(45)، 65-119.
علاقي، كريمة (2013). تربية الاختيارات” من بناء مشروع شخصي إلى بناء مشروع حياة. ورقة قدمت في المؤتمر الدولي الثالث لقسم التربية والدراسات الإنسانية بجامعة نزوى في الفترة 29/4- 1/5/2014م.
الكواري، صباح؛ حسن، محمد (1998). التوجيه المهني اختيار وإعداد الأفراد للعمل. مجلة التربية- قطر، 27(125)، 56-78.
المحيلبي، عبدالعزيز (2005). دور إدارة المدرسة في تهيئة المدرسة والمناهج الدراسية في تهيئة الطلبة لسوق العمل في دولة الكويت. المجلة العلمية، 21(1)، 256-289.