يوسف الكلاخي*
"يجب أن تؤخذ أمور التعليم كلها بالجد والحزم وأن يكون تنظيمها دقيقا وأن تتولى الدولة وحدها شؤون التعليم كلها إلى أمد بعيد." طه حسين "مستقبل الثقافة في مصر".
"إن شعوب العالم الثالث لم تعد تؤمن بالتنمية، وأن كل السياسات هي بحث عن أوهام..... لو كان كل أبناء وطني يعرفون القراءة فلن يبقى في الهند شجرة واحدة لتحولت إلى ورق." عالم هندي، صاحب مؤلف "العدو والحميم".
"أريد أن لكل الذين يريدون تطوير التعليم، أقول: لن تكون هناك نهضة بدون ثورة، واقصد هنا الثورة في المناهج التعليمية" الرئيس الأمريكي ريكن.
لعبت منظومة التربية والتعليم والمدرسة المغربية بشكل خاص في مرحلة ما بعد الاستقلال، دورا أساسيا في تأهيل وتكون نخبة من الأطر المغربية التي استطاعت أن تحل محل إدارة الحماية، ولا شك أن المنظومة شكلت أيضا قناة حقيقة للحراك الاجتماعي والانفتاح على العالم، وولوج العصرنة، وتكريس التماسك الاجتماعي. إلا أن هذه الصور التي كرستها هذه الأخيرة كحاملة لمشروع مجتمعي وسياسي وثقافي، ما فتئت أن تبددت أمام الصعوبات والمشاكل التي أصبحت تطرحها سواء على مستوى الغايات أو الأهداف المعلنة في ربط المؤسسة بالمحيط الاقتصادي والاجتماعي والسوسيوثقاقي، أوالرفع من مستوى مردودية وجودة التعليم وتعميمه، أو على مستوى ادخال مناهج وتقنيات حديثة أو تكوين مواطن قادر على المشاركة والتفاعل مع قضايا مجتمعه، فمنظومة التربية والتعليم أصبحت تعاني من مجموعة من الاكرهات التي سنحاول من خلال هذه الورقة تسليط الضوء عليها ليس من أجل تأزيم الوضع وإنما لاستشراف مستقبل جديد لأجيال قادمة، تتاح لها فرصة المعرفة والدخول الي مجتمع الحداثة والتقدم، لأن ادبيات العصر ومنطلقاته في الوقت الراهن تؤكد على أن من يملك المعرفة والعلم يملك أسباب التقدم والرقي.
منظومة التربية والتعليم: العوائق والإكرهات
إن اولى الاكرهات التي تواجهها المنظومة هو انفصالها عن الاقتصاد الوطني، وقد أسهم في تعميق هذا انسحاب الدولة عن القطاعات المنتجة. وهذا ما أكده تقرير الخمسينية في الفصل الثالث حول "ثثمين الامكان البشري:ولوج الخدمات الأساسية، التربية، الصحة، الحماية الاجتماعية ومحاربة الفقر حيث يقول التقرير " يتعين الإقرار بأن مواطن العجز التي راكمتها هذه المنظومة ما فتئت تجد اليوم صداها في جل ميادين الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. فسواء تعلق الأمر بمكانة المرأة في المجتمع وبحقوقها، أو بالشغل وتناقسية الاقتصاد، فإن منظومة التربية والتكوين تجد نفسها محط مساءلة. وفي هذا الصدد، قد لا يحتاج الأمر إلى البرهنة على أن التربية توجد في صلب التنمية البشرية، وأن مظاهر تأخرها في هذا المجال ترتبط، بشكل مباشر أو غير مباشر بالانجازات السلبية لنظامنا التعليمي.
اشكالية التربية والتعليم هي اشكالية تحيلنا كذلك إلى مشكل أعقد وهو تنامي ظاهرة الأمية في صفوف شريحة عريضة من المجتمع، فما يزال المغرب يجتر واحد من أكثر معدلات الأمية ارتفاعا في العالم، في حين يسير معدل محاربة هذه الآفة بوثيرة جد بطيئة، ينضاف إلى ذلك أن التراجع النسبي لهذا المعدل يخفي واقعا محبطا؛ حيث إن اعداد السكان الأميين قد تضاغف وفاق ما كات عليه.
كما أن المدرسة العمومية والمنظومة التربوية لم تتمكن من ترسيخ قيم المواطنة والانفتاح والرقي وحرية الفكر والتحصيل والفكر النقدي. وبالتالي فإن ما يعيشه المجتمع المغربي من أزمة على مستوى القيم والسلوك والأخلاق هو ناتج عن خلل في وظيفة المؤسسة التعليمية ومنظومة التربية والتكوين، ويمكن ربط هذا المعطى بالطرق التي يتم بها التدريس، فرغم المجهودات التي بدلت في مجال تحديث البرامج والمناهج (الإنتقال من بيداغوجية الأهداف إلى بيدغوجيا الكفايات تم إلى الإدماج). لم تحقق المنظومة نتائج ملموسة على أرض الواقع، والمعطيات والمؤشرات تؤكد هذا؛ على اعتبار أن ثلاثة تلاميذ من أربعة من بين أولئك الذين يغادرون المنظومة التربوية، كل سنة، هم بدون تأهيل، أي غير حاصلين على شهادة الباكلوريا أو أية شهادة في التكوي المهني.
الاكراهات التي تعاني منها منظومة التربية والتعليم لا يمكن فقط اختزلها في المعطى الاقتصادي والاجتماعي، ولكن هناك معطى اخر يعتبر أحد العوائق التي تحول دون تطوير منظومة التربية والتعليم، هذا المشكل هو المرتبط باللغة، فخريجي المدرسة المغربية والجامعات يعانون من مشكل اللغة والذي يعود الي السياسية التي اتبعتها الدولة "سياسة التعريب" مما فوت على خريجي المؤسسات التعليمية الانفتاح على اللغات العالمية (الانجليزية، الألمانية، الاسبانية........) وكذلك فرصة التعدد الثقافي والتنوع على مستوى الأفكار والمعارف.
إن كل هذه المؤشرات والمعطيات جعلت المغرب يحتل رتب متأخرة في مجال التربية والتعليم على المستوى العالمي، وهذا ما أكده تقرير البنك الدولي؛ إذ صنف المغرب في المراتب الأخيرة إلى جانب كل من العراق والكويت والجيبوتي واليمن، في حين احتلت الأردن والكويت المراتب الأولى، حيث أن اغلب أطفال المغاربة الذين اتموا تعليمهم الأساسي إلى غاية الحادي عشر من العمر، لا يجتاز إلا 13%، منهم المرحلة الثانوية، وربعهم المرحلة الابتدائية، وهو لم يحصل على المستوى المطلوب من المطالعة والكتاب والحساب. كما يتحدث التقرير أيضا عن نسب تجهيز المدارس القروية بالمرافق الأساسية كالكهرباء والماء والصرف الصحي وشروط التطبيب والتي يبلغ الخصاص فيها أزيد من 75%
ويوجه التقرير نقدا لادعا للنظام التعليمي بالمغرب واصفا أياه بضعف النجاعة وعدم التناسق، وعدم قدرته على التكيف وضعف مردوديته، كما ان الإصلاحات التي عرفها النظام كانت سطحية وغير مؤطرة بتصور ناظم، جامد لاتساير التحولات وغير ذات فعالية. فيفي حين تتقدم بعض دول المنطقة كالأردن وتونس والجزائر، يسجل التقرير تأخر المغرب سنة بعد سنة في ما يخص مؤشرات الجودة والمسؤولية والحكامة.
في أفق إصلاح منظومة التربية والتعليم
إن المتغيرات التي يعيشها العالم سواء على المستوى السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي أو التقافي، تفرض على مختلف الفاعلين (سياسيين تربويين اجتماعين اقتصاديين.....) النهوض بمنظومة التربية والتعليم كمدخل حقيقي للتنمية وتأهيل العنصر البشري؛ وما يعكس هذه الحقيقة تجارب الدول التي اعطت الأولوية للتعليم في برامجها السياسية ومشروعها المجتمعي، وفي هذا السياق نسوق بعض التجارب التي بينت أن التربية والتعليم مدخل حقيقي للتنمية، ونبدأ بتجربة اليابان. فقد بدأت الثورة التعليمية في اليابان مع اصلاحات الميجي 1868، وتم توحيد التعليم في اليابان سنة 1872 وأقرت اجباريته وعمم التعليم الابتدائي بنسبة 82% سنة 1900 وتوسعت قاعدة التعليم الثانوي والعالي بشكل هائل. وأعطيت الأسبقية للتعليم التقني، وتضاعف عدد البعثات إلى الخارج، فكانت يابان اليوم، اليابان التي تغزو بضائعها الأسواق العالمية بما فيها الأسواق الأوروبية والأمريكية.
وإلى حدود سنة 1967 كانت الهند تعرف بقارة المجاعة والتاريخ الحديث لازال يذكرنا بكارثة بيهار في شمال الشمال الشرقي للبلاد. آنذاك كانت حرب الفيتنام، وكان قد رفض الأمريكيون بيع القمح ومات الهنود وكانت الثورة الهندية. واليوم تمتلك الهند أكبر رصيد بشري من العلماء ذوي المستوى الرفيع وتنشر ما يزيد عن ألف مجلة علمية وتملك صناعة إلكترونية ومعلوماتية مزدهرة ودخلت مجال التكنولوجيا النووية والفضائية، وإحدى دول العالم الثالث النادرة. إن المدخل الحقيقي لهذه الثورة كان هو النهوض بقضايا التعليم.
تفرض كذلك التحولات التي تعيشها المجتمعات على مستوى القيم والأفكار انفتاح المنظومة التربوية والتعليمة على مختلف الثقافات من أجل خلق مواطن كوني يتميز بقدرته على الحوار والمناقشة والإبداع والفاعلية والنقد؛ اي ضرورة الثثوير المستمر للعملية التعلمية (المناهج، المقررات، الممارسات....) حتى تلتصق أكثر بالتحولات الفكرية والتكنولوجية المتسارعة التي تحملها الموجة الثالثة حسب تعبير "توفلر" أي عولمة اقتصاد المعرفة، اي الاقتصاد اللامادي في عصر المعلومات والتواصل، فلكل عصر تعليمه مادام الهدف هو تهيئ الفرد القادر عل الكتابة والقراءة، ليس قراءة النصوص بل قراءة العالم، والقدرة على الإنصات والانصهار في التحولات وفهمها ومواكبتها والإحساس بالقدرة على التأثير فيها، هذه القدرة النابعة من تكوين الفرد القادر على التعلم المستمر وعلى تحليل واستعاب الزخم الهائل من المعلومات المتوفرة أينما حل وارتحل.
إضافة إلى أن اصلاح المنظومة ينبغي إن يرتبط بشكل كبير بالمجال الاقتصادي والاجتماعي والثقافي. فلا ينبغي أن تبقى المؤسسات التعليمية والجامعات والمعاهد تركز في تكوينها للطلبة على المعارف والنظريات، وإنما ربطها بمجال سوق الشغل لكي يكون هو هناك تكامل بين النظرية والممارسة.
*أستاذ باحث